أطماع إسرائيل في سوريا- استعمارٌ مقنَّع أم صراعٌ إقليمي؟

المؤلف: إيهاب جبارين09.15.2025
أطماع إسرائيل في سوريا- استعمارٌ مقنَّع أم صراعٌ إقليمي؟

تشهد المنطقة العربية في هذه الحقبة الزمنية منعطفات حادة وتطورات متسارعة، تلقي بظلالها على مستقبل المنطقة بأسرها، وتكشف عن أهداف إسرائيلية دفينة في الأراضي السورية، تتخطى في جوهرها مجرد الحفاظ على الأمن القومي، لتتجسد في صورة استعمار حديث، مقنع بأغلفة مختلفة، يسعى جاهداً لإعادة رسم الخريطة الإقليمية في خضم صراعات دولية طاحنة.

وفي سياق متصل، وخلال خطابه الذي ألقاه أمام الكنيست في الثالث من مارس عام 2025، صرح بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل تخوض معركة شرسة على سبع جبهات متباينة، مؤكداً أن تحقيق "النصر الكامل" يمثل الهدف الأسمى والأوحد، ويتجلى هذا النصر في استعادة جميع الأسرى الإسرائيليين، وتدمير البنية التحتية العسكرية والإدارية لحركة حماس بشكل كامل، وضمان عدم قدرة قطاع غزة على تشكيل أي تهديد مستقبلي لإسرائيل.

بيد أن هذه التصريحات، التي تبدو في ظاهرها ذات طبيعة دفاعية بحتة، تتناقض بشكل صارخ مع الأفعال التي تُرتكب على أرض الواقع في سوريا، حيث تتكشف ملامح استراتيجية بعيدة المدى، تستلهم أدوات الاستعمار التقليدي لفرض سيطرة شاملة على الأراضي السورية، مستغلة حالة الفوضى والاضطراب التي تعم البلاد لمواجهة خصومها، وعلى رأسهم دولة تركيا، ودفع سوريا نحو أحد مصيرين لا ثالث لهما: إما حرب أهلية طاحنة ومستمرة لأجل غير مسمى، أو إخضاع كامل ونهائي بالقوة العسكرية الغاشمة.

جذور الإستراتيجية وأدواتها الاستعمارية

منذ الانهيار المدوي لنظام بشار الأسد في ديسمبر من عام 2024، عمدت إسرائيل إلى تكثيف عملياتها العسكرية في الأراضي السورية، معلنة عن نيتها في إقامة منطقة نفوذ تمتد لمسافة ستين كيلومترًا داخل الحدود السورية، وذلك تحت ستار منع انتقال الأسلحة الثقيلة والمتطورة إلى فصائل مسلحة مثل هيئة تحرير الشام أو حزب الله اللبناني.

إلا أن هذا الهدف المعلن، والذي يتخذ طابعًا أمنيًا بحتًا، ليس سوى قناع يخفي وراءه طموحات استعمارية أعمق وأبعد مدى، تعتمد في جوهرها على أساليب تاريخية عريقة، أثبتت فعاليتها على مر العصور في كسر إرادة الشعوب وإخضاعها.

تسعى إسرائيل جاهدة لتقسيم الشعب السوري إلى طوائف متناحرة، وذلك عبر تغذية الانقسامات الطائفية والعرقية التي تفاقمت حدتها بعد سقوط النظام الحاكم، مستلهمة في ذلك تجارب القوى الاستعمارية الغاشمة، مثل بريطانيا في الهند، حيث عملت على بث الفرقة والشقاق بين الهندوس والمسلمين، لضمان استمرار قبضتها وسيطرتها على البلاد.

تسعى إسرائيل إلى تجفيف منابع الاقتصاد السوري، وذلك من خلال السيطرة الكاملة على الأراضي الزراعية الخصبة، ومصادر المياه الحيوية، والمواقع الإستراتيجية الهامة، بهدف جعل السكان السوريين في حالة اعتماد دائم ومستمر عليها، على غرار ما فعلته فرنسا في شمال أفريقيا لإضعاف الاقتصادات المحلية وتركيع السكان الأصليين.

في الوقت نفسه، تتبنى إسرائيل سياسة ممنهجة لتجهيل الشعب السوري وتشويه صورته أمام العالم أجمع، وذلك من خلال تصويره كمجتمع فوضوي وغير قادر على حكم نفسه بنفسه، مبررة بذلك تدخلها السافر كـ "قوة متحضرة"، في تكرار لنفس الخطاب الاستعماري البغيض الذي استخدمته القوى الأوروبية لتبرير احتلالها للشرق الأوسط وأفريقيا في القرن التاسع عشر.

هذا التشويه المتعمد للحقائق يترافق مع نشر قوة عسكرية ضخمة في الأراضي السورية، تشمل قواعد دائمة ونقاط تفتيش منتشرة في كل مكان، لإخضاع المنطقة بالقوة الغاشمة والبطش، بينما تسعى في الوقت ذاته لخلق عملاء محليين من بين السكان، وذلك عبر تقديم امتيازات سخية لأفراد أو جماعات تقبل التعاون معها، ليكونوا أداة نفوذها داخل المجتمع السوري، تمامًا كما فعلت بريطانيا مع النخب المحلية في مستعمراتها القديمة.

تركيا كتهديد وجودي وسوريا كذريعة

مما يضفي بُعدًا بالغ التعقيد لهذه الإستراتيجية الإسرائيلية، هو الخوف المتزايد من تنامي نفوذ تركيا في المنطقة، والتي برزت كقوة إقليمية رئيسية في سوريا، وذلك من خلال دعمها العلني والكامل للنظام الجديد بقيادة أحمد الشرع.

فالأراضي السورية، التي تحولت إلى ساحة صراع دولي مفتوحة، تتنافس فيها قوى عظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا، أصبحت بالنسبة لنتنياهو مجرد ذريعة واهية لمواجهة الطموحات الإقليمية المتنامية لأنقرة، والتي تهدد بإعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالحها الخاصة.

فتركيا، التي تعزز نفوذها بشكل مطرد عبر دعم الفصائل الموالية لها في منطقة الشمال السوري، وتسعى جاهدة لفرض نموذجها السياسي والاقتصادي في المنطقة، يُنظر إليها في تل أبيب كتهديد وجودي حقيقي، قد يفوق في خطورته حتى النفوذ الإيراني المتراجع في الوقت الحالي.

هذا الخوف المتأصل يدفع إسرائيل إلى تثبيت وجودها العسكري في الأراضي السورية، ليس فقط لردع حزب الله أو إيران، بل لخلق توازن قوى جديد يحد من الهيمنة التركية المتوقعة، والتي قد تستغل الفراغ السياسي والأمني في سوريا لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية عظمى لا يُستهان بها.

حرب أهلية أو ترويض: مصير سوريا المحتوم

لكن طموحات إسرائيل تتجاوز مجرد المواجهة مع تركيا، إلى محاولة دفع سوريا نحو أحد مصيرين متوقعين، يخدمان أهدافها الإستراتيجية على المدى البعيد:

  • المصير الأول، هو إشعال فتيل حرب أهلية طاحنة وطويلة الأمد، على غرار ما شهده لبنان بين عامي 1975 و 1990، حيث تستمر الانقسامات الداخلية والصراعات المسلحة لسنوات طويلة، مما يؤدي إلى تفكيك سوريا كدولة موحدة ومستقرة، وتبديد قدرتها على تشكيل أي تهديد مباشر أو غير مباشر لإسرائيل.

هذا السيناريو الكارثي يتغذى بشكل أساسي على حالة الفوضى العارمة التي تعم البلاد، حيث تتعمد إسرائيل تعزيز التناقضات العميقة بين الفصائل السورية المختلفة، كالنظام الجديد والمعارضات المسلحة، وذلك عبر شن ضربات جوية وبرية تستهدف إضعاف الجميع تحت ذريعة حماية الدروز، مما يضمن استمرار النزيف الداخلي وتعميق الجراح.

  • المصير الثاني، هو ترويض سوريا بالكامل وإخضاعها لإرادتها، وذلك عبر رفع سقف الاعتداءات العسكرية على أراضيها، بشن ضربات جوية وبرية مكثفة تدمر بنيتها التحتية العسكرية والمدنية بشكل ممنهج، وتحويلها إلى كيان مشلول أو خاضع بشكل كامل، على غرار ما حاولت فرنسا فرضه على الجزائر في القرن التاسع عشر قبل أن تواجه مقاومة شعبية عنيفة وباسلة.

في الخلاصة، يؤكد نتنياهو على تصميمه الراسخ على تحقيق أهدافه المعلنة، مهاجمًا حتى معارضيه الداخليين، متهمًا إياهم بزرع الفتنة والشقاق، وتقويض أهداف إسرائيل الإقليمية، في محاولة يائسة لتعزيز تماسكه السياسي المتصدع أمام الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة.

فالصراع الداخلي الحاد الذي يواجهه نتنياهو، قد يدفعه إلى تصعيد أفعاله العدوانية، ليس فقط لردع التهديدات المحتملة، بل لتعزيز مكانته السياسية المهتزة أمام منتقديه داخل إسرائيل.

وبالفعل، قد تتجاوز إسرائيل حدود الدفاع عن النفس إلى فرض منطقة عازلة آمنة في جنوب سوريا، مدعومة بعمليات عسكرية واسعة النطاق، لخلق واقع جديد على الأرض يحقق أهدافها الاستعمارية الخبيثة.

هذا التصعيد الخطير لا يقتصر فقط على ردع الأعداء التقليديين، بل يهدف أيضًا إما إلى تفكيك سوريا بالكامل عبر إشعال حرب أهلية تضمن استنزافها بشكل مستمر، أو لإخضاعها بالقوة الغاشمة عبر توجيه ضربات عسكرية مستمرة تجعلها عاجزة تمامًا عن المقاومة، في إستراتيجية خبيثة تجمع بين التدمير الممنهج والسيطرة المطلقة.

السياق الدولي والمخاطر المحتملة

تتذرع إسرائيل بضعف الموقف الغربي تجاه الأزمة السورية، والذي يصفه المسؤولون الإسرائيليون بـ "العمى" تجاه النظام السوري الجديد، بينما يتجاهلون هم أنفسهم الضغوط الدولية المتزايدة، حيث أُبلغت واشنطن بخططهم العدوانية دون انتظار الحصول على موافقتها المسبقة، معتمدين بشكل أساسي على القوة العسكرية الغاشمة كأداة وحيدة لتحقيق أهدافهم في ظل تراجع الدور الدبلوماسي لحل النزاعات.
إلا أن هذه الإستراتيجية المتهورة قد تنقلب على صانعيها في نهاية المطاف، فعلى الرغم من طموحات إسرائيل العالية، فإنها تحمل في طياتها تناقضات داخلية عميقة، قد تهدد استقرار المنطقة بأسرها. فإشعال فتيل حرب أهلية في سوريا قد يتجاوز حدودها الجغرافية، ليمتد ليشمل دولًا مجاورة مثل لبنان والأردن، مما يخلق أزمة إقليمية أوسع وأكثر تعقيدًا، بينما محاولة ترويض سوريا بالقوة العسكرية الغاشمة قد تثير مقاومة شعبية عنيفة وغير متوقعة، كما حدث في تجارب تاريخية سابقة.

كما أن المواجهة المباشرة مع تركيا، التي تمتلك طموحات إقليمية مدعومة بقوة عسكرية واقتصادية متنامية، قد تؤدي إلى تصعيد خطير بين الطرفين، يضع إسرائيل أمام خيارات أكثر تعقيدًا مما تتصور.

خاتمة: لحظة مفصلية وتداعيات طويلة الأمد

في المحصلة النهائية، تتجاوز نوايا إسرائيل الخفية في سوريا حدود الردع، لتتحول إلى طموح استعماري سافر، يستغل حالة الفوضى والاضطراب لفرض واقع جديد على الأرض، مستعيرة في ذلك أدوات القوة والتفرقة لتحقيق أهداف مزدوجة: مواجهة النفوذ التركي المتنامي باعتباره تهديدًا وجوديًا، وإما تفكيك سوريا بالكامل عبر إشعال حرب أهلية مدمرة، أو ترويضها باعتداءات عسكرية مكثفة تحولها إلى كيان مشلول وعاجز.

إننا نقف اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة، تتطلب تحليلًا معمقًا ورؤية استشرافية دقيقة، فالتداعيات لن تقتصر على سوريا وحدها، بل ستمتد لتعيد صياغة التوازنات الإقليمية لعقود قادمة.

لكن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه بإلحاح يبقى: هل تستطيع إسرائيل، بكل قوتها العسكرية الهائلة، أن تحقق الهدف الذي تسعى إليه عبر هذه الإستراتيجية الخبيثة، أم أنها تزرع بذور صراع أعمق قد ينقلب عليها في نهاية المطاف؟

التاريخ وحده كفيل بالإجابة على هذا السؤال المصيري، لكن المؤشرات الحالية تنذر بمستقبل مليء بالتحديات الجسام لجميع الأطراف المعنية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة